سورة يس - تفسير تفسير الشوكاني

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (يس)


        


ثم ذكر سبحانه وتعالى نوعاً آخر مما امتنّ به على عباده من النعم، فقال: {وَءايَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِى الفلك المشحون} أي دلالة وعلامة، وقيل: معنى {آية} هنا: العبرة، وقيل: النعمة، وقيل: النذارة.
وقد اختلف في معنى {أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ} وإلى من يرجع الضمير، لأن الضمير الأوّل، وهو قوله: {وَءايَةٌ لَّهُمُ} لأهل مكة، أو لكفار العرب، أو للكفار على الإطلاق الكائنين في عصر محمد صلى الله عليه وسلم، فقيل: الضمير يرجع إلى القرون الماضية، والمعنى: أن الله حمل ذرّيّة القرون الماضية في الفلك المشحون، فالضميران مختلفان. وهذا حكاه النحاس عن عليّ بن سليمان الأخفش. وقيل: الضميران لكفار مكة، ونحوهم. والمعنى: أن الله حمل ذرّيّاتهم من أولادهم، وضعفائهم على الفلك، فامتنّ الله عليهم بذلك: أي: إنهم يحملونهم معهم في السفن إذا سافروا، أو يبعثون أولادهم للتجارة لهم فيها. وقيل: الذرّيّة: الآباء والأجداد، والفلك هو: سفينة نوح، أي: إن الله حمل آباء هؤلاء، وأجدادهم في سفينة نوح. قال الواحدي: والذرّيّة تقع على الآباء كما تقع على الأولاد. قال أبو عثمان: وسمي الآباء ذرية، لأن منهم ذرء الأبناء، وقيل: الذرّية النطف الكائنة في بطون النساء، وشبه البطون بالفلك المشحون، والراجح: القول الثاني، ثم الأوّل، ثم الثالث، وأما الرابع ففي غاية البعد، والنكارة.
وقد تقدّم الكلام في الذرية، واشتقاقها في سورة البقرة مستوفي، والمشحون: المملوء الموقر، والفلك يطلق على الواحد والجمع كما تقدّم في يونس، وارتفاع آية على أنها خبر مقدّم، والمبتدأ {أنا حملنا}، أو العكس على ما قدّمنا. وقيل: إن الضمير في قوله: {وَءايَةٌ لَّهُمُ} يرجع إلى العباد المذكورين في قوله: {ياحسرة عَلَى العباد} [يس: 30]؛ لأنه قال بعد ذلك: {وَءايَةٌ لَّهُمُ الأرض الميتة} [يس: 33]، وقال: {وَءايَةٌ لَّهُمُ اليل} [يس: 37]. ثم قال: {وَءايَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ}، فكأنه قال: وآية للعباد أنا حملنا ذريات العباد، ولا يلزم أن يكون المراد بأحد الضميرين: البعض منهم، وبالضمير: الآخر البعض الآخر، وهذا قول حسن.
{وَخَلَقْنَا لَهُمْ مّن مّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} أي: وخلقنا لهم مما يماثل الفلك ما يركبونه على أن ما هي: الموصولة. قال مجاهد، وقتادة، وجماعة من أهل التفسير: وهي: الإبل خلقها لهم للركوب في البرّ مثل السفن المركوبة في البحر، والعرب تسمي الإبل سفائن البرّ، وقيل: المعنى: وخلقنا لهم سفناً أمثال تلك السفن يركبونها، قاله الحسن، والضحاك، وأبو مالك. قال النحاس: وهذا أصحّ؛ لأنه متصل الإسناد عن ابن عباس، وقيل: هي السفن المتخذة بعد سفينة نوح {وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلاَ صَرِيخَ لَهُمْ وَلاَ هُمْ يُنقَذُونَ} هذا من تمام الآية التي امتنّ الله بها عليهم، ووجه الامتنان أنه لم يغرقهم في لجج البحار مع قدرته على ذلك، والضمير يرجع إما إلى أصحاب الذرية، أو إلى الذرية، أو إلى الجميع على اختلاف الأقوال، والصريخ بمعنى: المصرخ، والمصرخ هو: المغيث: أي: فلا مغيث لهم يغيثهم إن شئنا إغراقهم، وقيل: هو المنعة.
ومعنى {ينقذون}: يخلصون، يقال: أنقذه، واستنقذه، إذا خلصه من مكروه {إِلاَّ رَحْمَةً مّنَّا} استثناء مفرّغ من أعمّ العلل: أي: لا صريخ لهم، ولا ينقذون لشيء من الأشياء إلاّ لرحمة منا، كذا قال الكسائي، والزجاج، وغيرهما، وقيل: هو استثناء منقطع: أي: لكن لرحمة منا. وقيل هو منصوب على المصدرية بفعل مقدّر {و} انتصاب {متاعا} على العطف على رحمة: أي: نمتعهم بالحياة الدنيا {إلى حِينٍ} وهو: الموت، قاله قتادة.
وقال يحيى بن سلام: إلى القيامة.
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتقوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ} أي: ما بين أيديكم من الآفات، والنوازل، فإنها محيطة بكم، وما خلفكم منها. قال قتادة: معنى {اتقوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ} أي: من الوقائع فيمن كان قبلكم من الأمم {وَمَا خَلْفَكُمْ} في الآخرة.
وقال سعيد بن جبير، ومجاهد: {مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ} ما مضى من الذنوب {وَمَا خَلْفَكُمْ} ما بقي منها. وقيل: {مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ}: الدنيا {وَمَا خَلْفَكُمْ}: الآخرة، قاله سفيان.
وحكى عكس هذا القول الثعلبي عن ابن عباس. وقيل: {مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ} ما ظهر لكم {وَمَا خَلْفَكُمْ} ما خفي عنكم، وجواب إذا محذوف، والتقدير: إذا قيل لهم ذلك أعرضوا كما يدلّ عليه {إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ} {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} أي: رجاء أن ترحموا، أو كي ترحموا، أو راجين أن ترحموا {وَمَا تَأْتِيهِم مّنْ ءايَةٍ مّنْ ءايات رَبّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ} {ما} هي النافية، وصيغة المضارع للدلالة على التجدّد، ومن الأولى مزيدة للتوكيد، والثانية للتبعيض: والمعنى: ما تأتيهم من آية دالة على نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى صحة ما دعا إليه من التوحيد في حال من الأحوال إلاّ كانوا عنها معرضين. وظاهره يشمل الآيات التنزيلية، والآيات التكوينية، وجملة {إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ} في محلّ نصب على الحال كما مرّ تقريره في غير موضع. والمراد بالإعراض عدم الالتفات إليها، وترك النظر الصحيح فيها، وهذه الآية متعلقة بقوله: {ياحسرة عَلَى العباد مَا يَأْتِيهِمْ مّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ} أي: إذا جاءتهم الرسل كذّبوا. وإذا أتوا بالآيات أعرضوا عنها.
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُواْ مِمَّا رِزَقَكُمُ الله} أي: تصدّقوا على الفقراء مما أعطاكم الله، وأنعم به عليكم من الأموال، قال الحسن: يعني: اليهود أمروا بإطعام الفقراء.
وقال مقاتل: إن المؤمنين قالوا لكفار قريش: أنفقوا على المساكين مما زعمتم أنه لله من أموالكم من الحرث والأنعام كما في قوله سبحانه: {وَجَعَلُواْ للهِ الله مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الحرث والأنعام نَصِيباً} [الأنعام: 136]، فكان جوابهم ما حكاه الله عنهم بقوله: {قَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ} استهزاءً بهم، وتهكماً بقولهم: {أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاء الله أَطْعَمَهُ} أي: من لو يشاء الله رزقه، وقد كانوا سمعوا المسلمين يقولون: إن الرّزّاق هو: الله، وأنه يغني من يشاء، ويفقر من يشاء، فكأنهم حاولوا بهذا القول الإلزام للمسلمين، وقالوا: نحن نوافق مشيئة الله، فلا نطعم من لم يطعمه الله، وهذا غلط منهم، ومكابرة، ومجادلة بالباطل، فإن الله سبحانه أغنى بعض خلقه، وأفقر بعضاً، وأمر الغنيّ أن يطعم الفقير، وابتلاه به فيما فرض له من ماله من الصدقة. وقولهم: {مَن لَّوْ يَشَاء الله أَطْعَمَهُ} هو وإن كان كلاماً صحيحاً في نفسه، ولكنهم لما قصدوا به الإنكار لقدرة الله، أو إنكار جواز الأمر بالانفاق مع قدرة الله كان احتجاجهم من هذه الحيثية باطلاً. وقوله: {إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِى ضلال مُّبِينٍ} من تمام كلام الكفار. والمعنى: إنكم أيها المسلمون في سؤال المال، وأمرنا بإطعام الفقراء لفي ضلال في غاية الوضوح والظهور. وقيل: هو من كلام الله سبحانه جواباً على هذه المقالة التي قالها الكفار.
وقال القشيري، والماوردي: إن الآية نزلت في قوم من الزنادقة.
وقد كان في كفار قريش وغيرهم من سائر العرب، قوم يتزندقون فلا يؤمنون بالصانع، فقالوا هذه المقالة استهزاء بالمسلمين، ومناقضة لهم.
وحكى نحو هذا القرطبي عن ابن عباس.
{وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد} الذي تعدونا به من العذاب، والقيامة، والمصير إلى الجنة أو النار. {إِن كُنتُمْ صادقين} فيما تقولون، وتعدونا به. قالوا ذلك استهزاء منهم، وسخرية بالمؤمنين. ومقصودهم إنكار ذلك بالمرّة، ونفي تحققه، وجحد وقوعه، فأجاب الله سبحانه عنهم بقوله: {مَا يَنظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً واحدة} أي: ما ينتظرون إلاّ صيحة واحدة، وهي: نفخة إسرافيل في الصور {تَأُخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصّمُونَ} أي: يختصمون في ذات بينهم في البيع، والشراء، ونحوهما من أمور الدنيا، وهذه هي النفخة الأولى، وهي: نفخة الصعق.
وقد اختلف القراء في {يخصّمون}، فقرأ حمزة بسكون الخاء، وتخفيف الصاد من خصم يخصم، والمعنى: يخصم بعضهم بعضاً، فالمفعول محذوف. وقرأ أبو عمرو، وقالون بإخفاء فتحة الخاء، وتشديد الصاد. وقرأ نافع، وابن كثير، وهشام كذلك إلا أنهم أخلصوا فتحة الخاء، وقرأ الباقون بكسر الخاء، وتشديد الصاد. والأصل في القراءات الثلاث يختصمون، فأدغمت التاء في الصاد، فنافع، وابن كثير، وهشام نقلوا فتحة التاء إلى الساكن قبلها نقلاً كاملاً، وأبو عمرو، وقالون اختلسا حركتها تنبيهاً على أن الخاء أصلها السكون، والباقون حذفوا حركتها، فالتقى ساكنان، فكسروا أوّلهما.
وروي عن أبي عمرو، وقالون: أنهما قرءا بتسكين الخاء، وتشديد الصاد، وهي قراءة مشكلة لاجتماع ساكنين فيها. وقرأ أبيّ {يختصمون} على ما هو الأصل.
{فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً} أي: لا يستطيع بعضهم أن يوصي إلى بعض بما له، وما عليه، أو لا يستطيع أن يوصيه بالتوبة، والإقلاع عن المعاصي، بل يموتون في أسواقهم، ومواضعهم {وَلاَ إلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ} أي: إلى منازلهم التي ماتوا خارجين عنها. وقيل: المعنى: لا يرجعون إلى أهلهم قولاً، وهذا إخبار عما ينزل بهم عند النفخة الأولى. ثم أخبر سبحانه عما ينزل بهم عند النفخة الثانية، فقال: {وَنُفِخَ فِى الصور} وهي: النفخة التي يبعثون بها من قبورهم، ولهذا قال: {فَإِذَا هُم مّنَ الأجداث} أي: القبور {إلى رَبّهِمْ يَنسِلُونَ} أي: يسرعون، وبين النفختين أربعون سنة. وعبر عن المستقبل بلفظ الماضي حيث قال: {ونفخ} تنبيهاً على تحقق وقوعه كما ذكره أهل البيان، وجعلوا هذه الآية مثالاً له، والصور بإسكان الواو: هو القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل، كما وردت بذلك السنة، وإطلاق هذا الاسم على القرن معروف في لغة العرب، ومنه قول الشاعر:
نحن نطحناهم غداة الغورين *** نطحاً شديداً لا كنطح الصورين
أي: القرنين.
وقد مضى هذا مستوفى في سورة الأنعام.
وقال قتادة: الصور جمع صورة، أي: نفخ في الصور الأرواح، والأجداث جمع جدث، وهو: القبر. وقرئ: {الأجداف} بالفاء، وهي لغة، واللغة الفصيحة بالثاء المثلثة، والنسل، والنسلان: الإسراع في السير، يقال: نسل ينسل كضرب يضرب، ويقال: ينسل بالضم، ومنه قول امرئ القيس:
فسلي ثيابي من ثيابك تنسل ***
وقول الآخر:
عسلان الذيب أمسى قارنا *** برد الليل عليه فنسل
{قَالُواْ ياويلنا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا} أي: قالوا عند بعثهم من القبور بالنفخة: يا ويلنا: نادوا ويلهم، كأنهم قالوا له احضر، فهذا أوان حضورك، وهؤلاء القائلون هم: الكفار. قال ابن الأنباري: الوقف على {يا ويلنا} وقف حسن. ثم يبتدئ الكلام بقوله: {مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا} ظنوا لاختلاط عقولهم بما شاهدوا من الهول، وما داخلهم من الفزع أنهم كانوا نياماً. قرأ الجمهور {يا ويلنا}، وقرأ ابن أبي ليلى {يا ويلتنا} بزيادة التاء. وقرأ الجمهور {من بعثنا} بفتح ميم {من} على الاستفهام. وقرأ ابن عباس، والضحاك، وأبو نهيك بكسر الميم على أنها حرف جرّ، ورويت هذه القراءة عن عليّ بن أبي طالب. وعلى هذه القراءة تكون {من} متعلقة بالويل، وقرأ الجمهور {من بعثنا}. وفي قراءة أبيّ {من أهبنا} من هبّ نومه: إذا انتبه، وأنشد ثعلب على هذه القراءة:
وعاذلة هبت بليل تلومني *** ولم يعتمدني قبل ذاك عذول
وقيل: إنهم يقولون ذلك إذا عاينوا جهنم.
وقال أبو صالح: إذا نفخ النفخة الأولى رفع العذاب عن أهل القبور، وهجعوا هجعة إلى النفخة الثانية، وجملة {هَذَا مَا وَعَدَ الرحمن وَصَدَقَ المرسلون} جواب عليهم من جهة الملائكة، أومن جهة المؤمنين.
وقيل: هو من كلام الكفرة يجيب به بعضهم على بعض. قال بالأوّل الفراء، وبالثاني مجاهد.
وقال قتادة: هي من قول الله سبحانه، و{ما} في قوله: {مَا وَعَدَ الرحمن} موصولة، وعائدها محذوف والمعنى: هذا الذي وعده الرحمن، وصدق فيه المرسلون قد حق عليكم، ونزل بكم، ومفعولا الوعد والصدق محذوفان أي: وعدكموه الرحمن، وصدقكموه المرسلون، والأصل وعدكم به، وصدقكم فيه، أو وعدناه الرحمن، وصدقناه المرسلون على أن هذا من قول المؤمنين، أو من قول الكفار {إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحدة} أي: ما كانت تلك النفخة المذكورة إلاّ صيحة واحدة صاحها إسرافيل بنفخه في الصور {فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ} أي: فإذا هم مجموعون محضرون لدينا بسرعة للحساب، والعقاب {فاليوم لاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ} من النفوس {شَيْئاً} مما تستحقه أي: لا ينقص من ثواب عملها شيئاً من النقص، ولا تظلم فيه بنوع من أنواع الظلم {وَلاَ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي: إلاّ جزاء ما كنتم تعملونه في الدنيا، أو إلاّ بما كنتم تعملونه أي: بسببه، أو في مقابلته.
وقد أخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم عن أبي مالك في قوله: {أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ} الآية قال: في سفينة نوح حمل فيها من كلّ زوجين اثنين {وَخَلَقْنَا لَهُمْ مّن مّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} قال: السفن التي في البحر والأنهار التي يركب الناس فيها.
وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر عن أبي صالح نحوه.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وَخَلَقْنَا لَهُمْ مّن مّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} قال: هي السفن جعلت من بعد سفينة نوح.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عنه في الآية قال: يعني: الإبل خلقها الله كما رأيت، فهي: سفن البرّ يحملون عليها، ويركبونها. ومثله عن الحسن، وعكرمة، وعبد الله بن شدّاد، ومجاهد.
وأخرج عبد الرزاق، والفريابي، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن مردويه عن أبي هريرة في قوله: {فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً} الآية قال: تقوم الساعة، والناس في أسواقهم يتبايعون، ويذرعون الثياب، ويحلبون اللقاح، وفي حوائجهم، {فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلاَ إلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ}، وأخرج عبد بن حميد، وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد، وابن المنذر عن الزبير بن العوّام قال: إن الساعة تقوم، والرجل يذرع الثوب، والرجل يحلب الناقة، ثم قرأ: {فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً} الآية.
وأخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لتقومنّ الساعة، وقد نشر الرجلان ثوبهما، فلا يتبايعانه، ولا يطويانه، ولتقومنّ الساعة، وهو يليط حوضه، فلا يسقي فيه، ولتقومنّ الساعة، وقد انصرف الرجل بلبن لقحته، فلا يطعمه، ولتقومنّ الساعة، وقد رفع أكلته إلى فيه، فلا يطعمها»، وأخرج الفريابي، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن أبيّ بن كعب في قوله: {مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا} قال: ينامون قبل البعث نومة.


لما ذكر الله سبحانه حال الكافرين أتبعه بحكاية حال عباده الصالحين. وجعله من جملة ما يقال للكفار يومئذٍ زيادة لحسرتهم، وتكميلاً لجزعهم، وتتميماً لما نزل بهم من البلاء، وما شاهدوه من الشقاء، فإذا رأوا ما أعدّه الله لهم من أنواع العذاب، وما أعدّه لأوليائه من أنواع النعيم، بلغ ذلك من قلوبهم مبلغاً عظيماً، وزاد في ضيق صدورهم زيادة لا يقادر قدرها. والمعنى: {إِنَّ أصحاب الجنة} في ذلك {اليوم فِى شُغُلٍ} بما هم فيه من اللذات، التي هي ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، عن الاهتمام بأمر الكفار، ومصيرهم إلى النار، وإن كانوا من قراباتهم. والأولى عدم تخصيص الشغل بشيء معين.
وقال قتادة، ومجاهد: شغلهم ذلك اليوم بافتضاض العذارى.
وقال وكيع: شغلهم بالسماع.
وقال ابن كيسان: بزيارة بعضهم بعضاً، وقيل: شغلهم كونهم ذلك اليوم في ضيافة الله. قرأ الكوفيون وابن عامر: {شغل} بضمتين. وقرأ الباقون بضم الشين، وسكون الغين: وهما لغتان كما قال الفراء. وقرأ مجاهد، وأبو السماك بفتحتين. وقرأ النحوي، وابن هبيرة بفتح الشين، وسكون الغين. وقرأ الجمهور {فاكهون} بالرفع على أنه خبر إنّ، و{في شغل} متعلق به، أو في محل نصب على الحال، ويجوز أن يكون في محل رفع على أنه خبر إنّ، و{فاكهون} خبر ثانٍ. وقرأ الأعمش، وطلحة بن مصرف {فاكهين} بالنصب على أنه حال، و{في شغل} هو: الخبر. وقرأ الحسن، وأبو جعفر، وأبو حيوة، وأبو رجاء، وشيبة، وقتادة، ومجاهد {فكهون} قال الفراء: هما لغتان كالفاره، والفره، والحاذر، والحذر.
وقال الكسائي، وأبو عبيدة الفاكه: ذو الفاكهة مثل تامر ولابن، والفكه: المتفكه، والمتنعم.
وقال قتادة: الفكهون: المعجبون.
وقال أبو زيد: يقال رجل فكه: إذا كان طيب النفس ضحوكاً.
وقال مجاهد والضحاك كما قال قتادة.
وقال السدّي كما قال الكسائي.
{هُمْ وأزواجهم فِى ظلال عَلَى الأرائك مُتَّكِئُونَ} هذه الجملة مستأنفة مسوقة لبيان كيفية شغلهم، وتفكههم، وتكميلها بما يزيدهم سروراً، وبهجة من كون أزواجهم معهم على هذه الصفة من الاتكاء على الأرائك، فالضمير، وهو: {هم} مبتدأ، {وأزواجهم} معطوف عليه، والخبر {متكئون}، ويجوز أن يكون هم تأكيداً للضمير في {فاكهون}، وأزواجهم معطوف على ذلك الضمير، وارتفاع متكئون على أنه خبر لمبتدأ محذوف، و{في ظلال} متعلق به أو حال، وكذا على الأرائك، وجوّز، أبو البقاء: أن يكون {فِى ظلال} هو: الخبر، و{على الأرائك} مستأنف. قرأ الجمهور: {في ظلال} بكسر الظاء، وبالألف، وهو: جمع ظلّ. وقرأ ابن مسعود، وعبيد بن عمير، والأعمش، ويحيى بن وثاب، وحمزة، والكسائي، وخلف {في ظلل} بضم الظاء من غير ألف جمع ظلة، وعلى القراءتين، فالمراد: الفرش، والستور التي تظللهم كالخيام، والحجال، والأرائك جمع أريكة، كسفائن جمع سفينة، والمراد بها: السرر التي في الحجال.
قال أحمد بن يحيى ثعلب: الأريكة لا يكون إلا سريراً في قبة.
وقال مقاتل: إن المراد بالظلال أكنان القصور.
وجملة {لَهُمْ فِيهَا فاكهة} مبينة لما يتمتعون به في الجنة من المآكل، والمشارب، ونحوها. والمراد فاكهة كثيرة من كل نوع من أنواع الفواكه {وَلَهُمْ مَّا يَدَّعُونَ} {ما} هذه هي: الموصولة، والعائد محذوف، أو موصوفة، أو مصدرية، و{يدّعون} مضارع ادّعى. قال أبو عبيدة: يدّعون: يتمنون، والعرب تقول: ادّع عليّ ما شئت: أي تمنّ، وفلان في خير ما يدّعي أي: ما يتمنى.
وقال الزجاج: هو من الدعاء، أي: ما يدعونه أهل الجنة يأتيهم، من دعوت غلامي، فيكون الافتعال بمعنى: الفعل كالاحتمال بمعنى: الحمل، والارتحال بمعنى: الرحل. وقيل: افتعل بمعنى: تفاعل، أي: ما يتداعونه كقولهم: ارتموا، وتراموا. وقيل: المعنى: إن من ادّعى منهم شيئاً، فهو له، لأن الله قد طبعهم على أن لا يدّعي أحد منهم شيئاً إلاّ وهو يحسن ويجمل به أن يدّعيه، و{ما} مبتدأ، وخبرها {لهم}، والجملة معطوفة على ما قبلها. وقرئ: {يدعون} بالتخفيف، ومعناها واضح. قال ابن الأنباري: والوقف على يدّعون وقف حسن، ثم يبتدئ {سلام} على معنى: لهم سلام، وقيل: إن سلام هو خبر {ما} أي: مسلم خالص، أو ذو سلامة.
وقال الزجاج: سلام مرفوع على البدل من {ما} أي: ولهم أن يسلم الله عليهم، وهذا مني أهل الجنة، والأولى أن يحمل قوله: {وَلَهُمْ مَّا يَدَّعُونَ} على العموم، وهذا السلام يدخل تحته دخولاً أوّلياً، ولا وجه لقصره على نوع خاص، وإن كان أشرف أنواعه تحقيقاً لمعنى العموم، ورعاية لما يقتضيه النظم القرآني. وقيل: إن سلام مرتفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف، أي: سلام يقال لهم {قَوْلاً}، وقيل: إن سلام مبتدأ، وخبره الناصب ل {قولا}: أي سلام يقال لهم قولاً، وقيل: خبره من ربّ العالمين، وقيل: التقدير: سلام عليكم هذا على قراءة الجمهور، وقرأ أبيّ، وابن مسعود، وعيسى {سلاماً} بالنصب إما على المصدرية، أو على الحالية بمعنى: خالصاً، والسلام: إما من التحية، أو من السلامة. وقرأ محمد بن كعب القرظي {سلم} كأنه قال: سلم لهم لا يتنازعون فيه، وانتصاب {قولاً} على المصدرية بفعل محذوف على معنى: قال الله لهم ذلك قولاً، أو يقوله لهم قولاً، أو يقال لهم قولاً: {مّن رَّبّ رَّحِيمٍ} أي: من جهته. قيل: يرسل الله سحابة إليهم بالسلام.
وقال مقاتل: إن الملائكة تدخل على أهل الجنة من كل باب يقولون: سلام عليكم يا أهل الجنة من ربّ رحيم.
{وامتازوا اليوم أَيُّهَا المجرمون} هو على إضمار القول مقابل ما قيل للمؤمنين أي: ويقال للمجرمين: امتازوا أي: انعزلوا، من مازه غيره، يقال: مزت الشيء من الشيء: إذا عزلته عنه، ونحيته. قال مقاتل: معناه اعتزلوا اليوم- يعني: في الآخرة- من الصالحين.
وقال السدّي: كونوا على حدة.
وقال الزجاج: انفردوا عن المؤمنين.
وقال قتادة: عزلوا عن كل خير.
وقال الضحاك: يمتاز المجرمون بعضهم من بعض، فيمتاز اليهود فرقة، والنصارى فرقة، والمجوس فرقة، والصابئون فرقة، وعبدة الأوثان فرقة.
وقال داود بن الجراح: يمتاز المسلمون من المجرمين إلا أصحاب الأهواء، فإنهم يكونون مع المجرمين.
ثم وبخهم الله سبحانه، وقرعهم بقوله: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يبَنِى آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ الشيطان}، وهذا من جملة ما يقال لهم. والعهد: الوصية، أي: ألم أوصكم، وأبلغكم على ألسن رسلي: أن لا تعبدوا الشيطان أي: لا تطيعوه. قال الزجاج: المعنى: ألم أتقدّم إليكم على لسان الرسل يا بني آدم.
وقال مقاتل: يعني: الذين أمروا بالاعتزال. قال الكسائي: لا للنهي، وقيل: المراد بالعهد هنا: الميثاق المأخوذ عليهم حين أخرجوا من ظهر آدم. وقيل: هو ما نصبه الله لهم من الدلائل العقلية التي في سماواته، وأرضه، وجملة {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} تعليل لما قبلها من النهي عن طاعة الشيطان، وقبول وسوسته، وجملة {وَأَنِ اعبدونى} عطف على {أن لا تعبدوا}، وأن: في الموضعين هي المفسرة للعهد الذي فيه معنى القول، ويجوز أن تكون مصدرية فيهما أي: لم أعهد إليكم بأن لا تعبدوا بأن اعبدوني، أو ألم أعهد إليكم في ترك عبادة الشيطان، وفي عبادتي {هذا صراط مُّسْتَقِيمٌ} أي: عبادة الله، وتوحيده، أو الإشارة إلى دين الإسلام.
ثم ذكر سبحانه عداوة الشيطان لبني آدم، فقال: {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً} اللام هي: الموطئة للقسم، والجملة مستأنفة للتقريع والتوبيخ، أي: والله لقد أضلّ إلخ. قرأ نافع، وعاصم {جبلاً} بكسر الجيم، والباء، وتشديد اللام، وقرأ أبو عمرو، وابن عامر بضم الجيم، وسكون الباء، وقرأ الباقون بضمتين مع تخفيف اللام، وقرأ ابن أبي إسحاق، والزهري، وابن هرمز بضمتين مع تشديد اللام، وكذلك قرأ الحسن، وعيسى بن عمر، والنضر بن أنس، وقرأ أبو يحيى، وحماد بن سلمة، والأشهب العقيلي بكسر الجيم، وإسكان الباء، وتخفيف اللام قال النحاس: وأبينها القراءة الأولى. والدليل على ذلك أنهم قد قرءوا جميعاً {والجبلة الأوّلين} [الشعراء: 184] بكسر الجيم، والباء، وتشديد اللام. فيكون جبلاً جمع جبلة، واشتقاق الكل من جبل الله الخلق أي: خلقهم، ومعنى الآية: أن الشيطان قد أغوى خلقاً كثيراً كما قال مجاهد.
وقال قتادة: جموعاً كثيرة، وقال الكلبي: أمماً كثيرة. قال الثعلبي: والقراءات كلها بمعنى: الخلق، وقرئ: {جيلاً} بالجيم، والياء التحتية.
قال الضحاك: الجيل الواحد عشرة آلاف، والكثير ما يحصيه إلا الله عزّ وجلّ، ورويت هذه القراءة عن عليّ بن أبي طالب، والهمزة في قوله: {أَفَلَمْ تَكُونُواْ تَعْقِلُونَ} للتقريع، والتوبيخ، والفاء للعطف على مقدّر يقتضيه المقام كما تقدّم في نظائره أي: أتشاهدون آثار العقوبات؟ أفلم تكونوا تعقلون؟ أو أفلم تكونوا تعقلون عداوة الشيطان لكم؟ أو أفلم تكونوا تعقلون شيئاً أصلاً؟ قرأ الجمهور: {أفلم تكونوا تعقلون} بالخطاب، وقرأ طلحة، وعيسى بالغيبة.
{هذه جَهَنَّمُ التى كُنتُمْ تُوعَدُونَ} أي: ويقال لهم عند أن يدنوا من النار: هذه جهنم التي كنتم توعدون بها في الدنيا على ألسنة الرسل، والقائل لهم الملائكة، ثم يقولون لهم: {اصلوها اليوم بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} أي: قاسوا حرّها اليوم، وادخلوها، وذوقوا أنواع العذاب فيها بما كنتم تكفرون أي: بسبب كفركم بالله في الدنيا، وطاعتكم للشيطان، وعبادتكم للأوثان، وهذا الأمر أمر تنكيل، وإهانة كقوله: {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم} [الدخان: 49] {اليوم نَخْتِمُ على أفواههم} اليوم ظرف لما بعده، وقرئ: {يختم} على البناء للمفعول، والنائب الجار والمجرور بعده. قال المفسرون: إنهم ينكرون الشرك، وتكذيب الرسل كما في قولهم: {والله رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23]، فيختم الله على أفواههم ختماً لا يقدرون معه على الكلام، وفي هذا التفات من الخطاب إلى الغيبة للإيذان بأن أفعالهم القبيحة مستدعية للإعراض عن خطابهم، ثم قال: {وَتُكَلّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} أي: تكلمت أيديهم بما كانوا يفعلونه، وشهدت أرجلهم عليهم بما كانوا يعملون. قرأ الجمهور {تكلمنا} و{تشهد}، وقرأ طلحة بن مصرف {ولتكلمنا} و{لتشهد} بلام كي. وقيل: سبب الختم على أفواههم ليعرفهم أهل الموقف. وقيل: ختم على أفواههم لأجل أن يكون الإقرار من جوارحهم؛ لأن شهادة غير الناطق أبلغ في الحجة من شهادة الناطق لخروجه مخرج الإعجاز. وقيل: ليعلموا أن أعضاءهم التي كانت أعواناً لهم في معاصي الله صارت شهوداً عليهم، وجعل ما تنطق به الأيدي كلاماً، وإقراراً؛ لأنها كانت المباشرة لغالب المعاصي، وجعل نطق الأرجل شهادة؛ لأنها حاضرة عند كل معصية، وكلام الفاعل إقرار، وكلام الحاضر شهادة، وهذا اعتبار بالغالب، وإلا فالأرجل قد تكون مباشرة للمعصية كما تكون الأيدي مباشرة لها.
{وَلَوْ نَشَاء لَطَمَسْنَا على أَعْيُنِهِمْ} أي: أذهبنا أعينهم، وجعلناها بحيث لا يبدو لها شقّ، ولا جفن. قال الكسائي: طمس يطمس، ويطمس، والمطموس، والطميس عند أهل اللغة الذي ليس في عينيه شقّ كما في قوله: {وَلَوْ شَاء الله لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وأبصارهم} [البقرة: 20]. ومفعول المشيئة محذوف أي: لو نشاء أن نطمس على أعينهم لطمسنا. قال السدّي، والحسن: المعنى: لتركناهم عمياً يتردّدون لا يبصرون طريق الهدى، واختار هذا ابن جرير {فاستبقوا الصراط} معطوف على {لطمسنا} أي: تبادروا إلى الطريق ليجوزوه، ويمضوا فيه، والصراط منصوب بنزع الخافض أي: فاستبقوا إليه، وقال عطاء، ومقاتل، وقتادة: المعنى: لو نشاء لفقأنا أعينهم، وأعميناهم عن غيهم، وحوّلنا أبصارهم من الضلالة إلى الهدى، فأبصروا رشدهم، واهتدوا، وتبادروا إلى طريق الآخرة، ومعنى {فأنى يُبْصِرُونَ} أي: كيف يبصرون الطريق، ويحسنون سلوكه، ولا أبصار لهم.
وقرأ عيسى بن عمر {فاستبقوا} على صيغة الأمر، أي: فيقال لهم: استبقوا، وفي هذا تهديد لهم.
ثم كرّر التهديد لهم، فقال: {وَلَوْ نَشَاء لمسخناهم على مكانتهم} المسخ: تبديل الخلقة إلى حجر، أو غيره من الجماد، أو بهيمة، والمكانة: المكان، أي: لو شئنا لبدّلنا خلقهم على المكان الذي هم فيه. قيل: والمكانة أخص من المكان كالمقامة، والمقام. قال الحسن: أي: لأقعدناهم {فَمَا استطاعوا مُضِيّاً وَلاَ يَرْجِعُونَ} أي: لا يقدرون على ذهاب، ولا مجيء. قال الحسن: فلا يستطيعون أن يمضوا أمامهم؛ ولا يرجعوا وراءهم، وكذلك الجماد لا يتقدّم، ولا يتأخر. وقيل: المعنى لو نشاء لأهلكناهم في مساكنهم، وقيل: لمسخناهم في المكان الذي فعلوا فيه المعصية.
وقال يحيى بن سلام: هذا كله يوم القيامة. قرأ الجمهور {على مكانتهم} بالإفراد. وقرأ الحسن، والسلمي، وزرّ بن حبيش، وأبو بكر عن عاصم {مكاناتهم} بالجمع. وقرأ الجمهور {مضياً} بضم الميم، وقرأ أبو حيوة {مضياً} بفتحها، وروي عنه: أنه قرأ بكسرها، ورويت هذه القراءة عن الكسائي. قيل: والمعنى: ولا يستطيعون رجوعاً، فوضع الفعل موضع المصدر لمراعاة الفاصلة، يقال: مضى يمضي مضياً: إذا ذهب في الأرض، ورجع يرجع رجوعاً: إذا عاد من حيث جاء.
{وَمَن نّعَمّرْهُ نُنَكّسْهُ فِى الخلق} قرأ الجمهور {ننكسه} بفتح النون الأولى، وسكون الثانية، وضم الكاف مخففة. وقرأ عاصم، وحمزة بضم النون الأولى، وفتح الثانية، وكسر الكاف مشدّدة. والمعنى: من نطل عمره نغير خلقه، ونجعله على عكس ما كان عليه أوّلاً من القوّة والطراوة. قال الزجاج: المعنى: من أطلنا عمره نكسنا خلقه، فصار بدل القوّة الضعف، وبدل الشباب الهرم، ومثل هذه الآية قوله سبحانه: {وَمِنكُمْ مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ العمر لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً} [الحج: 5]، وقوله: {ثُمَّ رددناه أَسْفَلَ سافلين} [التين: 5]، ومعنى {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}: أفلا تعلمون بعقولكم أن من قدر على ذلك قدر على البعث، والنشور. قرأ الجمهور: {يعقلون} بالتحتية. وقرأ نافع، وابن ذكوان بالفوقية على الخطاب.
ولما قال كفار مكة: إن القرآن شعر، وإن محمداً شاعر، ردّ الله عليهم بقوله: {وَمَا علمناه الشعر}، والمعنى: نفى كون القرآن شعراً، ثم نفى أن يكون النبيّ شاعراً، فقال: {وَمَا يَنبَغِى لَهُ} أي: لا يصح له الشعر، ولا يتأتى منه، ولا يسهل عليه لو طلبه، وأراد أن يقوله، بل كان إذا أراد أن ينشد بيتاً قد قاله شاعر متمثلاً به كسر وزنه، فإنه لما أنشد بيت طرفة بن العبد المشهور، وهو قوله:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا *** ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
قال: ويأتيك من لم تزوّده بالأخبار، وأنشد مرّة أخرى قول العباس بن مرداس السلمي:
أتجعل نهبي ونهب العبي *** د بين عيينة والأقرع
فقال: بين الأقرع وعيينة، وأنشد أيضاً:
كفى بالإسلام والشيب للمرء ناهياً ***
فقال أبو بكر: يا رسول الله، إنما قال الشاعر:
كفى الشيب والإسلام للمرء ناهياً ***
فقال: أشهد أنك رسول الله، يقول الله عزّ وجلّ: {وَمَا علمناه الشعر وَمَا يَنبَغِى لَهُ} وقد وقع منه صلى الله عليه وسلم كثير من مثل هذا. قال الخليل: كان الشعر أحبّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من كثير من الكلام، ولكن لا يتأتى منه. انتهى. ووجه عدم تعليمه الشعر، وعدم قدرته عليه. التكميل للحجة، والدحض للشبهة، كما جعله الله أمياً لا يقرأ ولا يكتب، وأما ما روي عنه صلى الله عليه وسلم من قوله:
هل أنت إلا أصبع دميت *** وفي سبيل الله ما لقيت
وقوله:
أنا النبيّ لا كذب *** أنا ابن عبد المطلب
ونحو ذلك، فمن الاتفاق الوارد من غير قصد كما يأتي ذلك في بعض آيات القرآن، وليس بشعر، ولا مراد به الشعر، بل اتفق ذلك اتفاقاً كما يقع في كثير من كلام الناس، فإنهم قد يتكلمون بما لو اعتبره معتبر لكان على وزن الشعر، ولا يعدّونه شعراً، وذلك كقوله تعالى: {لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] وقوله: {وَجِفَانٍ كالجواب وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ} [سبأ: 13] على أنه قد قال الأخفش إن قوله:
أنا النبيّ لا كذب ***
ليس بشعر.
وقال الخليل في كتاب العين: إن ما جاء من السجع على جزأين لا يكون شعراً. قال ابن العربي: والأظهر من حاله أنه قال: لا كذب برفع الباء من كذب، وبخفضها من عبد المطلب. قال النحاس: قال بعضهم: إنما الرواية بالإعراب، وإذا كانت بالإعراب لم يكن شعراً، لأنه إذا فتح الباء من الأوّل، أو ضمهما، أو نوّنها، وكسر الباء من الثاني خرج عن وزن الشعر. وقيل: إن الضمير في {له} عائد إلى القرآن أي: وما ينبغي للقرآن أن يكون شعراً {إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ} أي: ما القرآن إلا ذكر من الأذكار، وموعظة من المواعظ {وَقُرْآنٌ مُّبِين} أي: كتاب من كتب الله السماوية مشتمل على الأحكام الشرعية {لّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيّاً} أي: لينذر القرآن من كان حياً، أي: قلبه صحيح يقبل الحق، ويأبى الباطل، أو لينذر الرسول من كان حياً. قرأ الجمهور بالياء التحتية، وقرأ نافع، وابن عامر بالفوقية، فعلى القراءة الأولى المراد: القرآن، وعلى الثانية المراد: النبي صلى الله عليه وسلم {وَيَحِقَّ القول عَلَى الكافرين} أي: وتجب كلمة العذاب على المصرّين على الكفر الممتنعين من الإيمان بالله، وبرسله.
وقد أخرج ابن أبي شيبة، وابن أبي الدنيا، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه من طرق عن ابن عباس في قوله: {فِى شُغُلٍ فاكهون} قال: في افتضاض الأبكار.
وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي الدنيا، وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد، وابن جرير، وابن المنذر عن ابن مسعود في الآية قال: شغلهم: افتضاض العذارى.
وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة، وقتادة مثله.
وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن ابن عمر قال: إن المؤمن كلما أراد زوجة وجدها عذراء.
وقد روي نحوه مرفوعاً عن أبي سعيد، مرفوعاً عند الطبراني في الصغير، وأبي الشيخ في العظمة.
وروي أيضاً نحوه عن أبي هريرة مرفوعاً عند الضياء المقدسي في صفة الجنة.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {فِى شُغُلٍ فاكهون} قال: ضرب الأوتار. قال أبو حاتم: هذا لعله خطأ من المستمع، وإنما هو افتضاض الأبكار.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه قال: {فاكهون}: فرحون.
وأخرج ابن ماجه، وابن أبي الدنيا في صفة الجنة، والبزار، وابن أبي حاتم، والأجرّي في الرؤية، وابن مردويه عن جابر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور، فرفعوا رؤوسهم، فإذا الربّ قد أشرف عليهم من فوقهم، فقال: السلام عليكم يا أهل الجنة، وذلك قول الله: {سَلاَمٌ قَوْلاً مّن رَّبّ رَّحِيمٍ} قال: فينظر إليهم، وينظرون إليه، فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم، ويبقى نوره، وبركته عليهم في ديارهم» قال ابن كثير: في إسناده نظر.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في الآية قال: إن الله هو يسلم عليهم.
وأخرج أحمد، ومسلم، والنسائي، والبزار، وابن أبي الدنيا في التوبة، واللفظ له، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في الأسماء والصفات عن أنس في قوله: {اليوم نَخْتِمُ على أفواههم} قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فضحك حتى بدت نواجذه، قال: «أتدرون مما ضحكت؟» قلنا: لا يا رسول الله، قال: «من مخاطبة العبد ربه يقول: يا ربّ ألم تجرني من الظلم؟ فيقول: بلى، فيقول: إني لا أجيز عليّ إلا شاهداً مني، فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك شهيداً، وبالكرام الكاتبين شهوداً، فيختم على فيه. ويقال لأركانه: انطقي، فتنطق بأعماله، ثم يخلى بينه، وبين الكلام، فيقول: بعداً لكنّ، وسحقاً، فعنكن كنت أناضل»
وأخرج مسلم، والترمذي، وابن مردويه، والبيهقي عن أبي سعيد، وأبي هريرة قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يلقى العبد ربه، فيقول الله: قل: ألم أكرمك، وأسوّدك، وأزوّجك، وأسخر لك الخيل، والإبل، وأذرك ترأس، وترتع؟ فيقول: بلى أي ربّ، فيقول: أفظننت أنك ملاقيّ؟ فيقول: لا، فيقول: إني أنساك كما نسيتني. ثم يلقى الثاني، فيقول مثل ذلك، ثم يلقى الثالث، فيقول له مثل ذلك، فيقول: آمنت بك، وبكتابك، وبرسولك، وصليت، وصمت، وتصدّقت، ويثني بخير ما استطاع، فيقول: ألا نبعث شاهدنا عليك، فيفكر في نفسه من الذي يشهد عليّ، فيختم على فيه، ويقال لفخذه: انطقي، فتنطق فخذه، وفمه، وعظامه بعمله ما كان، وذلك ليعذر من نفسه، وذلك المنافق، وذلك الذي يسخط عليه».
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم من حديث أبي موسى نحوه.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله: {وَلَوْ نَشَاء لَطَمَسْنَا على أَعْيُنِهِمْ} قال: أعميناهم، وأضللناهم عن الهدى {فأنى يُبْصِرُونَ} فكيف يهتدون.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عنه في قوله: {وَلَوْ نَشَاء لمسخناهم} قال: أهلكناهم {على مكانتهم} قال: في مساكنهم.
وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم قال: بلغني أنه قيل لعائشة: هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمثل بشيء من الشعر؟ قالت: كان أبغض الحديث إليه، غير أنه كان يتمثل ببيت أخي بني قيس، فيجعل أوّله آخره يقول: ويأتيك من لم تزوّد بالأخبار، فقال أبو بكر: ليس هكذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني والله ما أنا بشاعر، ولا ينبغي لي» وهذا يردُّ ما نقلناه عن الخليل سابقاً أن الشعر كان أحبّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من كثير من الكلام، وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استراث الخبر تمثل ببيت طرفة:
ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد ***
وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمثل من الأشعار:
ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد ***
وأخرج البيهقي في سننه عن عائشة قالت: ما جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت شعر قط إلا بيتاً واحداً:
تفاءل بما تهوى يكن فلقلما *** يقال لشيء كان إلا تحقق
قالت عائشة: ولم يقل تحققاً لئلا يعربه، فيصير شعراً، وإسناده هكذا: قال: أخبرنا أبو عبيد الله الحافظ: يعني: الحاكم حدّثنا أبو حفص عمر بن أحمد بن نعيم، حدّثنا أبو محمد عبد الله بن هلال النحوي الضرير، حدّثنا علي بن عمرو الأنصاري، حدّثنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، فذكره.
وقد سئل المزّي عن هذا الحديث فقال: هو منكر، ولم يعرف شيخ الحاكم، ولا الضرير.


ثم ذكر سبحانه قدرته العظيمة، وإنعامه على عبيده، وجحد الكفار لنعمه، فقال: {أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أنعاما} والهمزة للإنكار، والتعجيب من حالهم، والواو للعطف على مقدّر كما في نظائره، والرؤية هي القلبية أي: أو لم يعلموا بالتفكر، والاعتبار {أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم} أي: لأجلهم {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} أي: مما أبدعناه، وعملناه من غير واسطة، ولا شركة، وإسناد العمل إلى الأيدي مبالغة في الاختصاص، والتفرّد بالخلق كما يقول الواحد منا: عملته بيدي للدلالة على تفرّده بعمله، و{ما} بمعنى: الذي، وحذف العائد لطول الصلة، ويجوز أن تكون مصدرية، والأنعام جمع نعم، وهي: البقر، والغنم، والإبل، وقد سبق تحقيق الكلام فيها. ثم ذكر سبحانه المنافع المترتبة على خلق الأنعام، فقال: {فَهُمْ لَهَا مالكون} أي: ضابطون قاهرون يتصرفون بها كيف شاءوا، ولو خلقناها وحشية لنفرت عنهم، ولم يقدروا على ضبطها، ويجوز أن يكون المراد: أنها صارت في أملاكهم، ومعدودة من جملة أموالهم المنسوبة إليهم نسبة الملك.
{وذللناها لَهُمْ} أي: جعلناها لهم مسخرة لا تمتنع مما يريدون منها من منافعهم حتى الذبح، ويقودها الصبيّ، فتنقاد له، ويزجرها، فتنزجر، والفاء في قوله: {فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ} لتفريع أحكام التذليل عليه أي: فمنها مركوبهم الذي يركبونه كما يقال: ناقة حلوب أي: محلوبة. قرأ الجمهور {ركوبهم} بفتح الراء. وقرأ الأعمش، والحسن، وابن السميفع بضم الراء على المصدر. وقرأ أبيّ، وعائشة {ركوبتهم}، والركوب والركوبة واحد، مثل الحلوب والحلوبة، والحمول والحمولة.
وقال أبو عبيدة: الركوبة تكون للواحدة والجماعة، والركوب لا يكون إلا للجماعة. وزعم أبو حاتم: أنه لا يجوز، فمنها ركوبهم بضم الراء؛ لأنه مصدر، والركوب ما يركب، وأجاز ذلك الفراء كما يقال: فمنها أكلهم، ومنها شربهم، ومعنى {وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ}: ما يأكلونه من لحمها، و{من} للتبعيض {وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ} أي: لهم في الأنعام منافع غير الركوب لها، والأكل منها، وهي ما ينتفعون به من أصوافها، وأوبارها، وأشعارها، وما يتخذونه من الأدهان من شحومها، وكذلك الحمل عليها، والحراثة بها {ومشارب} أي: ولهم فيها مشارب مما يحصل من ألبانها {أَفَلاَ يَشْكُرُونَ} الله على هذه النعم، ويوحدونه، ويخصونه بالعبادة.
ثم ذكر سبحانه جهلهم، واغترارهم، ووضعهم كفران النعم مكان شكرها، فقال: {واتخذوا مِن دُونِ الله ءالِهَةً} من الأصنام، ونحوها يعبدونها، ولا قدرة لها على شيء، ولم يحصل لهم منها فائدة، ولا عاد عليهم من عبادتها عائدة {لَّعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ} أي: رجاء أن ينصروا من جهتهم إن نزل بهم عذاب، أو دهمهم أمر من الأمور، وجملة {لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ} مستأنفة لبيان بطلان ما رجوه منها، وأملوه من نفعها، وجمعهم بالواو، والنون جمع العقلاء بناء على زعم المشركين أنهم ينفعون، ويضرون، ويعقلون {وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مٌّحْضَرُونَ} أي: والكفار جند للأصنام محضرون أي: يحضرونهم في الدنيا.
قال الحسن: يمنعون منهم، ويدفعون عنهم، وقال قتادة: أي: يغضبون لهم في الدنيا. قال الزجاج: ينتصرون للأصنام، وهي لا تستطيع نصرهم. وقيل: المعنى يعبدون الآلهة، ويقومون بها، فهم لهم بمنزلة الجند، هذه الأقوال على جعل ضمير {هم} للمشركين، وضمير {لهم} للآلهة، وقيل: {وهم} أي: الآلهة لهم أي: للمشركين {جند محضرون} معهم في النار، فلا يدفع بعضهم عن بعض. وقيل: معناه وهذه الأصنام لهؤلاء الكفار جند الله عليهم في جهنم؛ لأنهم يلعنونهم، ويتبرءون منهم. وقيل: المعنى: إن الكفار يعتقدون أن الأصنام جند لهم يحضرون يوم القيامة لإعانتهم.
ثم سلى سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم فقال: {فَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ} هذا القول هو ما يفيده قوله: {واتخذوا مِن دُونِ الله ءالِهَةً} فإنهم لا بدّ أن يقولوا: هؤلاء آلهتنا، وإنها شركاء لله في المعبودية، ونحو ذلك. وهو نهي للرسول صلى الله عليه وسلم عن التأثر بذلك. وقيل: إنه نهي لهم عن الأسباب التي تحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن النهي لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن التأثر لما يصدر منهم هو من باب: «لا أرينك ها هنا» فإنه يراد به نهي من خاطبه عن الحضور لديه، لا نهي نفسه عن الرؤية، وهذا بعيد، والأوّل أولى، والكلام من باب التسلية كما ذكرنا، ويجوز أن يكون المراد بالقول المذكور هو: قولهم إنه ساحر، وشاعر، ومجنون. وجملة {إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} لتعليل ما تقدّم من النهي، فإن علمه سبحانه بما يظهرون، ويضمرون مستلزم المجازاة لهم بذلك. وأن جميع ما صدر منهم لا يعزب عنه سواء كان خافياً، أو بادياً سرًّا، أو جهراً مظهراً، أو مضمراً. وتقديم السرّ على الجهر للمبالغة في شمول علمه لجميع المعلومات.
وجملة {أَوَ لَمْ يَرَ الإنسان أَنَّا خلقناه مِن نُّطْفَةٍ} مستأنفة مسوقة لبيان إقامة الحجة على من أنكر البعث، وللتعجيب من جهله، فإن مشاهدة خلقهم في أنفسهم على هذه الصفة من البداية إلى النهاية مستلزمة للاعتراف بقدرة القادر الحكيم على ما هو دون ذلك من بعث الأجسام، وردّها كما كانت، والإنسان المذكور في الآية المراد به: جنس الإنسان كما في قوله: {أَوْ لاَ يَذْكُرُ إلإنسان أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً} [مريم: 67]، ولا وجه لتخصيصه بإنسان معين كما قيل: إنه عبد الله بن أبيّ، وأنه قيل له ذلك لما أنكر البعث.
وقال الحسن: هو: أمية بن خلف.
وقال سعيد بن جبير: هو: العاص بن وائل السهمي.
وقال قتادة، ومجاهد: هو: أبيّ بن خلف الجمحي، فإن أحد هؤلاء، وإن كان سبباً للنزول، فمعنى الآية: خطاب الإنسان من حيث هو، لا إنسان معين، ويدخل من كان سبباً للنزول تحت جنس الإنسان دخولاً أوّلياً، والنطفة هي: اليسير من الماء، وقد تقدّم تحقيق معناها {فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ} هذه الجملة معطوفة على الجملة المنفية قبلها داخلة معها في حيز الإنكار المفهوم من الاستفهام، و{إذا} هي: الفجائية أي: ألم يرَ الإنسان أنا خلقناه من أضعف الأشياء، ففجأ خصومتنا في أمر قد قامت فيه عليه حجج الله، وبراهينه، والخصيم: الشديد الخصومة الكثير الجدال، ومعنى المبين: المظهر لما يقوله الموضح له بقوّة عارضته، وطلاقة لسانه، وهكذا جملة: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِىَ خَلْقَهُ} معطوفة على الجملة المنفية داخلة في حيز الإنكار المفهوم من الاستفهام، فهي تكميل للتعجيب من حال الإنسان، وبيان جهله بالحقائق، وإهماله في نفسه فضلاً عن التفكر في سائر مخلوقات الله، ويجوز أن تكون جملة {فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ} معطوفة على خلقنا، وهذه معطوفة عليها أي: أورد في شأننا قصة غريبة كالمثل: وهي إنكاره أحياناً للعظام، ونسي خلقه، أي: خلقنا إياه، وهذه الجملة معطوفة على ضرب، أو في محلّ نصب على الحال بتقدير قد.
وجملة {قَالَ مَن يُحييِ العظام وَهِىَ رَمِيمٌ} استئناف جواباً عن سؤال مقدّر كأنه قيل: ما هذا المثل الذي ضربه؟ فقيل: قال: من يحيي العظام، وهي رميم، وهذا الاستفهام للإنكار؛ لأنه قاس قدرة الله على قدرة العبد، فأنكر أن الله يحيي العظام البالية حيث لم يكن ذلك في مقدور البشر، يقال: رمّ العظم يرمّ رماً إذا بلي، فهو رميم، ورمام، وإنما قال: {رميم}، ولم يقل: رميمة مع كونه خبراً للمؤنث؛ لأنه اسم لما بلي من العظام غير صفة كالرمة والرفات. وقيل: لكونه معدولاً عن فاعلة، وكل معدول عن وجهه يكون مصروفاً عن إعرابه كما في قوله: {وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً} [مريم: 28]؛ لأنه مصروف عن باغية، كذا قال البغوي، والقرطبي، وقال بالأوّل صاحب الكشاف. والأولى أن يقال: إنه فعيل بمعنى: فاعل، أو مفعول، وهو يستوي فيه المذكر، والمؤنث كما قيل في جريح، وصبور.
ثم أجاب سبحانه عن الضارب لهذا المثل، فقال: {قُلْ يُحْيِيهَا الذى أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} أي: ابتدأها، وخلقها أوّل مرة من غير شيء، ومن قدر على النشأة الأولى قدر على النشأة الثانية {وَهُوَ بِكُلّ شَئ عَلِيمٌ} لا يخفى عليه خافية، ولا يخرج عن علمه خارج كائناً ما كان.
وقد استدلّ أبو حنيفة، وبعض أصحاب الشافعي بهذه الآية على أن العظام مما تحله الحياة.
وقال الشافعي: لا تحله الحياة، وأن المراد بقوله: {مَن يُحىِ العظام} من يحيي أصحاب العظام على تقدير مضاف محذوف، وردّ بأن هذا التقدير خلاف الظاهر {الذى جَعَلَ لَكُم مّنَ الشجر الأخضر نَاراً} هذا رجوع منه سبحانه إلى تقرير ما تقدّم من دفع استبعادهم، فنبه سبحانه على وحدانيته، ودل على قدرته على إحياء الموات بما يشاهدونه من إخراج النار المحرقة من العود النديّ الرطب، وذلك أن الشجر المعروف بالمرخ، والشجر المعروف بالعفار إذا قطع منهما عودان، وضرب أحدهما على الآخر انقدحت منهما النار، وهما أخضران.
وقيل: المرخ هو: الذكر، والعفار هو: الأنثى، ويسمى الأوّل الزند، والثاني الزندة، وقال: {الأخضر}، ولم يقل: الخضراء اعتباراً باللفظ. وقرئ: {الخضر} اعتباراً بالمعنى، وقد تقرّر أنه يجوز تذكير اسم الجنس، وتأنيثه كما في قوله: {نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ} [القمر: 20] وقوله: {نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الحاقة: 7] فبنو تميم، ونجد يذكَّرونه، وأهل الحجاز يؤنثونه إلا نادراً، والموصول بدل من الموصول الأوّل {فَإِذَا أَنتُم مّنْه تُوقِدُونَ} أي: تقدحون منه النار، وتوقدونها من ذلك الشجر الأخضر.
ثم ذكر سبحانه ما هو أعظم خلقاً من الإنسان، فقال: {أَوَ لَيْسَ الذى خَلَقَ السموات والأرض بقادر على أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم} والهمزة للإنكار، والواو للعطف على مقدّر كنظائره، ومعنى الآية: أن من قدر على خلق السماوات، والأرض- وهما في غاية العظم، وكبر الأجزاء- يقدر على إعادة خلق البشر الذي هو صغير الشكل ضعيف القوّة، كما قال سبحانه: {لَخَلْقُ السموات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس} [غافر: 57] قرأ الجمهور {بقادر} بصيغة اسم الفاعل. وقرأ الجحدري، وابن أبي إسحاق، والأعرج، وسلام بن المنذر، وأبو يعقوب الحضرمي {يقدر} بصيغة الفعل المضارع. ثم أجاب سبحانه عما أفاده الاستفهام من الإنكار التقريريّ بقوله: {بلى وَهُوَ الخلاق العليم} أي: بلى هو قادر على ذلك، وهو المبالغ في الخلق، والعلم على أكمل وجه، وأتمه. وقرأ الحسن، والجحدري، ومالك بن دينار {وهو الخالق}.
ثم ذكر سبحانه ما يدل على كمال قدرته، وتيسر المبدأ، والإعادة عليه، فقال: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} أي: إنما شأنه سبحانه إذا تعلقت إرادته بشيء من الأشياء أن يقول له: احدث، فيحدث من غير توقف على شيء آخر أصلاً، وقد تقدّم تفسير هذا في سورة النحل، وفي البقرة. قرأ الجمهور {فيكون} بالرفع على الاستئناف. وقرأ الكسائي بالنصب عطفاً على {يقول}. ثم نزّه سبحانه نفسه عن أن يوصف بغير القدرة، فقال: {فسبحان الذى بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلّ شَئ}، والملكوت في كلام العرب لفظ مبالغة في الملك كالجبروت، والرحموت كأنه قال: فسبحان الذي بيده مالكية الأشياء الكلية. قال قتادة: ملكوت كلّ شيء: مفاتح كلّ شيء. قرأ الجمهور {ملكوت} وقرأ الأعمش، وطلحة بن مصرف، وإبراهيم التيمي {ملكة} بزنة شجرة، وقرئ: {مملكة} بزنة مفعلة، وقرئ: {ملك}، والملكوت أبلغ من الجميع.
وقرأ الجمهور {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} بالفوقية على الخطاب مبنياً للمفعول. وقرأ السلمي، وزر بن حبيش، وأصحاب ابن مسعود بالتحتية على الغيبة مبنياً للمفعول أيضاً. وقرأ زيد بن عليّ على البناء للفاعل أي: ترجعون إليه لا إلى غيره وذلك في الدار الآخرة بعد البعث.
وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم في معجمه، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في البعث والضياء في المختارة عن ابن عباس قال: جاء العاص بن وائل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعظم حائل، ففته بيده، فقال: يا محمد أيحيي الله هذا بعد ما أرم؟ قال: «نعم يبعث الله هذا، ثم يميتك، ثم يحييك، ثم يدخلك نار جهنم» فنزلت الآيات من آخر ياس {أَوَ لَمْ يَرَ الإنسان أَنَّا خلقناه مِن نُّطْفَةٍ} إلى آخر السورة.
وأخرج ابن جرير، وابن مردويه عنه قال: جاء عبد الله بن أبيّ في يده عظم حائل إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وذكر مثل ما تقدّم قال ابن كثير: وهذا منكر؛ لأن السورة مكية، وعبد الله بن أبيّ إنما كان بالمدينة.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: جاء أبيّ بن خلف الجمحي، وذكر نحو ما تقدّم.
وأخرج ابن مردويه عنه أيضاً قال: نزلت في أبي جهل، وذكر نحو ما تقدّم.

1 | 2